رجح أكثر علماء السيرة النبوية أن حدوث الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة واحدة[1]، أي بعد مرور اثني عشر عامًا من البَعثة، وهي سنوات ذاق خلالها النبي
وصحبه الكرام ألوانًا وأصنافًا من الاضطهاد والعذاب، شمل الجانب النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله
لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود.
وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله
أن يُفَكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد
ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية
قاهرة من آيات الله
، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلتْ جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلاَّ ذِكْرَ اللَّه
!!
وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي
لمَّا حدثتْ له مصيبتان كبيرتان في هذا العام (العاشرة من البعثة)، أمَّا الأولى فهي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله
، والسند الاجتماعي له، وأمَّا الثانية فهي وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله
والسند العاطفي والقلبي له!!
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله
، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه؛ حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب.
وقد ازداد رسول الله
غمًّا على غمٍّ حتى يئس من قريش، وخرج إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي
قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه،
فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا
يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أُكلِّمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله
كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله
ما ينبغي لي أن أكلمك!
وهنا قام رسول الله
من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: "إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي". إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه
، وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد
بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء
حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ
يدعو بالدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو
ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا
أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي،
إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلَى عَدُوٍّ
مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي..."[2].
وهذا الدعاء يدلُّ على امتلاء قلبه
كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، وقد جاء هذا الحزن وذاك الألم معبَّرًا عنه في حديث عائشة رضي الله عنها؛ إذ سألتْ رسول الله
: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ
: "لَقَدْ
لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ... إِذْ
عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ
يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى
وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ،
فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي،
فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ
إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ
عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[3].
ثم إنه
لما عاد إلى مكة حزينًا كسيرَ النفس لم يستطع أن يَدْخُلْهَا إلاَّ في جوار مشرك، وهو مطعم بن عديّ!!
وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة المقاطعة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم
العاطفي والاجتماعي، زوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب ؛ في هذه الظروف وبعد أن ضاقت به الأرض من المشركين اتَّسعت له أفق السماء، وجاءت معجزة الإسراء والمعراج تثبيتًا له
ومواساة وتكريمًا؛ ولتكون بذلك منحة ربانيَّة تمسح الأحزان ومتاعب الماضي، وتنقله
إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن
.

وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله

وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود.
وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله



وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي



وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله

وقد ازداد رسول الله

وهنا قام رسول الله


وهذا الدعاء يدلُّ على امتلاء قلبه




ثم إنه

وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة المقاطعة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم




[1]
هناك اختلافٌ بيِّن في زمن الإسراء والمعراج، فقيل: قبل الهجرة بسنة. وهو
قول ابن سعد (الطبقات 1/214)، وغيره، وبه جزم النووي (شرح صحيح مسلم
2/209). كما ورد عند ابن سعد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر
شهرًا، وحكى ابن عبد البر أنه كان في رجب، وجزم به النووي. وحكى ابن الأثير
أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين (الكامل 2/33)، وقيل غير ذلك. انظر محمد
الأمين بن محمد: السيرة النبوية من فتح الباري 1/233، ويعلِّق الشيخ أبو
زهرة فيقول: "وننتهي من هذا بأن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين
اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة، وقد اتفقوا على أنها كانت
بعد ذهاب النبي
على الطائف وردّهم له الردّ المنكر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من
رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير...". انظر رزق
هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص91.

[2] راجع في ذلك مثلاً: سيرة ابن هشام 1/419 وما بعدها.
[3]
البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء
فوافقت إحداهما الأخرى (3059)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي
النبي
من أذى المشركين والمنافقين (1795).
_____________________________

_____________________________
أما
الحكمة من الإسراء والمعراج
إذا
أردنا أن نتلمس الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج المباركة، فقد عدَّد
السيوطي مجموعة طيِّبة منها، فقال عن الحكمة من الإسراء: إنما كان الإسراء
ليلاً لأنه وقت الخلوة والاختصاص عُرْفًا، ولأن وقت الصلاة التي كانت
مفروضة عليه في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2][1].
ويقول الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة:
"الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يُريد إخماده؛ لأنه لو عُرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلمَّا ذَكَر أنه أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات بيت المقدس كانوا قد رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحَّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيَّة ما ذَكَرَه، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند"[2].
ومع ما ذُكِرَ من حكمة إسراء النبي
إلى بيت المقدس أوَّلاً فإن هناك دلالة أخرى على مدى ما ينبغي أن يُوجَد
لدى المسلمين في كل عصر ووقت، مِنَ الحِفَاظِ على هذه الأرض المقدَّسة،
وحمايتها من مطامع الدُّخلاء، وأعداء الدين، وكأنَّ الحكمة الإلهيَّة
تُهِيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهينوا، ولا يجبنوا، ولا يتخاذلوا أمام
عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة[3].
وأمَّا الحكمة من المعراجفإنَّ في دلالة اختيار النبي
للَّبن دون الخمر، دلالة رمزيَّة على فطرة الإسلام ونقاوته الأصيلة،
الموافقة للطباع البشريَّة كلها، كما أن في بقاء أبواب السماء مغلقة حتى
استفتح جبريل
ولم تتهيَّأ له بالفتح قبل مجيئه أنها لو فُتِحَت قبلُ لظُنَّ أنها لا تزال كذلك، فأُبْقِيَتْ لِيُعْلَم أن ذلك لأجله
؛ ولأن الله تعالى أراد أن يُطلعه على كونه معروفًا عند أهل السموات؛ لأنه قيل لجبريل لما قال للنبي
: أبُعث إليه؟ ولم يقل: مَنْ محمد؟ مثلاً[4].
وقال السيوطي أيضًا: "الحكمة في كون آدم في الأُولىأنه أوَّل الأنبياء وأوَّل الآباء، وهو أصلٌ فكان أوَّلاً في الآباء، ولأجل تأنيس النبوَّة بالأُبُوَّة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد
، ويليه يوسف؛ لأنَّ أُمَّة محمد
يدخلون الجنَّة على صورته، وإدريس قيل: لأنه أوَّل مَنْ قاتل للدِّينِ فلعلَّ المناسبة فيها الإذن للنبي
بالمقاتلة ورفعه بالمعراج؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]،
والرابعة من السبع وَسَط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع
منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدَّد للنبي
بلُقْيَاه أُنْس لتوجُّهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي
أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع؛ فلذلك ارتفع عنه إلى قاب قوسين
أو أدنى".
وقال أيضًا: اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح تشمل خلال الخير؛ ولذا كرَّرها كلٌّ منهم عند كل صفة[5].
وقد ذكر القرطبي كذلك أن الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي
في أمر الصلاة، قيل: لأنه أوَّل من تلقَّاه عند الهبوط؛ ولأنَّ أُمَّته
أكثر من أُمَّةِ غيره؛ ولأنَّ كِتَابَه أكبر الكتب المنزَّلة قبل القرآن
تشريفًا وأحكامًا، أو لكون أُمَّة موسى قد كُلِّفت من الصلوات بما لم
تُكَلَّف به غيرُها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى
على أُمَّة محمد
، ويُؤَيِّد ذلك ما ذُكِر في الرواية السابقة بقوله
: "أنا أعلم بالناس منك". ولعلَّ الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء والمعراج أنه
لمَّا عُرج به في تلك الليلة تعبَّد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد،
والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأُمَّته
تلك العبادات كلها؛ يصليها العبد في ركعة واحدة، بشرائطها من الطمأنينة
والإخلاص، وفي اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إلى عظيم بيانها؛ ولذلك اختصَّ
فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعدَّدت[6].
ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى أراد أن يُعِدَّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلاميَّة، هذه المرحلة تُشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله تعالى، وهي مرحلة مجابهة فرعون؛ فقد قال الله تعالى عن موسى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 22-23]. فموسى الذي سيقابل فرعون الطاغية قد هُيِّئَ بهذه الرؤية لاحتقار كلِّ القوى الأرضيَّة ما دامت معه قوَّة الله تعالى، والرسول
كان مأمورًا بالصبر طيلة الفترة المكية، ثم إنه بعد الهجرة أمر بالمجابهة،
وكان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل -بعام واحد على أصحِّ الأقوال-
فكانت رؤية آيات الله الكبرى تمهيدًا لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول
الله
بالقلة من أصحابه في وجه الدنيا كلها، فقال تعالى في أوائل سورة النجم عن المعراج: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18][7].
فبهذه الحادثة الجليلة أوضح الله تعالى بها أنه قادر على كل شيء، وأن محمدًا
الفقير المعذَّب هو وأصحابه في مكة استطاع ربُّه جلَّ وعلا أن يوضِّح له مدى الضآلة التي يعيش فيها هؤلاء الكفرة، بل جعله الله
خير خلق الله تعالى، فبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى وعروجه على
الأنبياء الصالحين في السموات السبع، ثم وصوله لسدرة المنتهى يكن النبي
قد أُلبس من العظمة الربانيَّة رداءً لم يلبسه أحدٌ من قبله، ولن يلبسه أحد من بعده.
وعلى كُلٍّ، فحادث الإسراء والمعراج لم يكن إلاَّ درجة من درجات التكريم، ووسيلة من وسائل التثبيت، ولونًا من ألوان الاختبار، تجلَّى به I على عبده ونبيِّه، وأسبغ عليه مِن بحار الفيض والإمداد ما تمكَّن به في مدَّة وجيزة أو ساعات معدودة أن يكشف عن طريق المعاينة كثيرًا من آيات ربِّه وعجائبه، في أرضه وسمائه، أَسْرَى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء ربُّ العزَّة والملكوت[8].
وبعد؛ فهذا هو -كما يقول الشيخ محمود شلتوت- حادث الإسراء والمعراج، وإذا كان لنا أن ننتفع بذكرياتنا فلنذكر به فضل الله على نبيِّه الذي جاهد في تثبيت هذا الدين، وإسعاد الإنسانيَّة به، ولننتهج في ذلك خُطَّته حتى نحوز رضا الله وإسعاده، ولنذكر به أيضًا أن الله فرض في تلك الليلة على نبيِّه وأُمَّته -وقد طُوِيَت المسافاتُ وزَالَت الحُجُب- خمسَ صلوات في اليوم والليلة، أَمَرَهم بالمحافظة عليها، وجعلها عليهم كتابًا موقوتًا، بها يناجون ربهم، وبها يقومون بواجب العبوديَّة التي خُلِعَتْ حلَّتها على نبيِّهم في تلك الليلة، وبها يتغلَّبون على الشهوات والأهواء، وبها تُغْرَس في قلوبهم مكارم الأخلاق، ويُطَهِّرون نفوسهم من صفات الجبن والبخل والهلع والجزع، وبها يستعينون على مشاقِّ الحياة كما استعان محمد
بها على مشاقِّ الحياة ومصائب القوم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة: 153]، {إِنَّ
الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23].
الصلاة.. لم يفرضها الله I كما فرض غيرها من الواجبات والأركان، وإنما فرضها في كوكبة من الملأ الأعلى، وفي جذوة من الإشراق والأنوار؛ تنويهًا بشأنها، ورمزًا لمكانتها.
فلنذكر كلَّ ذلك، ولنذكر أن الرسول
الذي نال فخر الإسراء، كان يحنُّ دائمًا إلى مناجاة ربِّه والوقوف بين
يديه، حتى كان لا يجد لذَّة إلاَّ في تلك المناجاة، فهو القائل: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ".
فهي طهرة للقلب، ومعراج للربِّ، وإسراء إلى ساحة الفضل، فمن شاء أن يسري
به ربُّه، وأن تعرج به ملائكة الرحمة، فليحافظ عليها، وليُدِمْ مناجاة
ربِّه بها، وليُحسن وقوفه بين يديه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133][9].
ونختم بأنه إذا كان لنا أن نذكر حادث الإسراء، فإنما نذكره أوَّلاً في حدود اليقين والاطمئنان لا في متَّسع الظنون والاضطراب، وأن نذكره ثانيًا بقلوبنا، وفي أوقاتنا كلها بما يُرشِد إليه من إيحاء ننتفع به في حياتنا على توالي السنين والأجيال... وإنَّ حادث الإسراء بعد كونه تثبيتًا وتكريمًا للنبي
،
وإعدادًا لقواه النفسيَّة والعقليَّة والجسميَّة لتحمُّل أعباء الرسالة
العامَّة، وخذلان أعدائه، وعلوِّ كلمته، هو بعد ذلك كلِّه يوحي للمسلمين
بمكان بدئه وهو المسجد الحرام، ومكان نهايته وهو المسجد الأقصى، يوحي
بمهابط الوحي الأوَّل الذي تلقَّاه إبراهيم وإسماعيل، ومهبط الوحي الثاني
الذي تلقَّاه موسى وعيسى، وأنها كلها مهابط الرسالة الإلهية التي جاء محمد
لتكميلها والهيمنة عليها، وأن تلك الرسالات -وإن اختلفت أزمنتها، وتعدَّدت
رسلها- واحدة في دعوتها وغايتها، وأن الرسل جميعًا الذين اصطفاهم الله
لتبليغها بُنَاة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم محمد بن عبد الله، صاحب
الإسراء والمعراج. إذن فلا بُدَّ أن يخفق على هذه الأماكن جميعها علم
التوحيد والإيمان، على النحو الذي جاء في رسالته، ولا بُدَّ أن تطهر رقعتها
من بذور الشرك والوثنيَّة والظلم والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحقِّ
وعدالة السماء[10].
ويقول الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة:
"الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يُريد إخماده؛ لأنه لو عُرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلمَّا ذَكَر أنه أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات بيت المقدس كانوا قد رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحَّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيَّة ما ذَكَرَه، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند"[2].
ومع ما ذُكِرَ من حكمة إسراء النبي

وأمَّا الحكمة من المعراجفإنَّ في دلالة اختيار النبي




وقال السيوطي أيضًا: "الحكمة في كون آدم في الأُولىأنه أوَّل الأنبياء وأوَّل الآباء، وهو أصلٌ فكان أوَّلاً في الآباء، ولأجل تأنيس النبوَّة بالأُبُوَّة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد



وقال أيضًا: اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح تشمل خلال الخير؛ ولذا كرَّرها كلٌّ منهم عند كل صفة[5].
وقد ذكر القرطبي كذلك أن الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي






ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى أراد أن يُعِدَّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلاميَّة، هذه المرحلة تُشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله تعالى، وهي مرحلة مجابهة فرعون؛ فقد قال الله تعالى عن موسى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 22-23]. فموسى الذي سيقابل فرعون الطاغية قد هُيِّئَ بهذه الرؤية لاحتقار كلِّ القوى الأرضيَّة ما دامت معه قوَّة الله تعالى، والرسول


فبهذه الحادثة الجليلة أوضح الله تعالى بها أنه قادر على كل شيء، وأن محمدًا



وعلى كُلٍّ، فحادث الإسراء والمعراج لم يكن إلاَّ درجة من درجات التكريم، ووسيلة من وسائل التثبيت، ولونًا من ألوان الاختبار، تجلَّى به I على عبده ونبيِّه، وأسبغ عليه مِن بحار الفيض والإمداد ما تمكَّن به في مدَّة وجيزة أو ساعات معدودة أن يكشف عن طريق المعاينة كثيرًا من آيات ربِّه وعجائبه، في أرضه وسمائه، أَسْرَى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء ربُّ العزَّة والملكوت[8].
وبعد؛ فهذا هو -كما يقول الشيخ محمود شلتوت- حادث الإسراء والمعراج، وإذا كان لنا أن ننتفع بذكرياتنا فلنذكر به فضل الله على نبيِّه الذي جاهد في تثبيت هذا الدين، وإسعاد الإنسانيَّة به، ولننتهج في ذلك خُطَّته حتى نحوز رضا الله وإسعاده، ولنذكر به أيضًا أن الله فرض في تلك الليلة على نبيِّه وأُمَّته -وقد طُوِيَت المسافاتُ وزَالَت الحُجُب- خمسَ صلوات في اليوم والليلة، أَمَرَهم بالمحافظة عليها، وجعلها عليهم كتابًا موقوتًا، بها يناجون ربهم، وبها يقومون بواجب العبوديَّة التي خُلِعَتْ حلَّتها على نبيِّهم في تلك الليلة، وبها يتغلَّبون على الشهوات والأهواء، وبها تُغْرَس في قلوبهم مكارم الأخلاق، ويُطَهِّرون نفوسهم من صفات الجبن والبخل والهلع والجزع، وبها يستعينون على مشاقِّ الحياة كما استعان محمد

الصلاة.. لم يفرضها الله I كما فرض غيرها من الواجبات والأركان، وإنما فرضها في كوكبة من الملأ الأعلى، وفي جذوة من الإشراق والأنوار؛ تنويهًا بشأنها، ورمزًا لمكانتها.
فلنذكر كلَّ ذلك، ولنذكر أن الرسول

ونختم بأنه إذا كان لنا أن نذكر حادث الإسراء، فإنما نذكره أوَّلاً في حدود اليقين والاطمئنان لا في متَّسع الظنون والاضطراب، وأن نذكره ثانيًا بقلوبنا، وفي أوقاتنا كلها بما يُرشِد إليه من إيحاء ننتفع به في حياتنا على توالي السنين والأجيال... وإنَّ حادث الإسراء بعد كونه تثبيتًا وتكريمًا للنبي


[1] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[2] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/200، 201.
[3] البوطي: فقه السيرة النبوية ص113.
[4] جلال الدين السيوطي: الخصائص النبوية الكبرى 1/391، 392.
[5] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[6] محمد الأمين بن أحمد الجكني: السيرة النبوية من فتح الباري 1/239-240، وانظر بهجة النفوس 3/200، وفتح الباري 7/216.
[7] سعيد حوّى: الرسول ص329.
[8] الشيخ محمود شلتوت: توجيهات إسلامية، نقلاً عن رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص104، 105.
[9] المصدر السابق ص108، 109.
[10] السابق نفسه ص100.
[2] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/200، 201.
[3] البوطي: فقه السيرة النبوية ص113.
[4] جلال الدين السيوطي: الخصائص النبوية الكبرى 1/391، 392.
[5] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[6] محمد الأمين بن أحمد الجكني: السيرة النبوية من فتح الباري 1/239-240، وانظر بهجة النفوس 3/200، وفتح الباري 7/216.
[7] سعيد حوّى: الرسول ص329.
[8] الشيخ محمود شلتوت: توجيهات إسلامية، نقلاً عن رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص104، 105.
[9] المصدر السابق ص108، 109.
[10] السابق نفسه ص100.
0 التعليقات:
إرسال تعليق